من المفارقات المحزنة فيما نعيشه في عالمنا أن يتمتع جبل أصم بـ"حقوق إنسان" مُعترف بها أكثر مما يحظى به ما يزيد عن مليوني فلسطيني يعيشون في سجن مفتوح وبيئة مدمرة بالكامل اسمها قطاع غزة.
لكن هذا ما حدث بالفعل وليس من نسج الخيال، لقد كان من قبيل الصدفة أن يعود مبعوث دونالد ترامب للشرق الأوسط من زيارة إلى غزة في نفس الأسبوع الذي مُنح فيه جبل في نيوزيلندا جميع حقوق الإنسان ومسؤولياته. إنها مصادفة مؤسفة، لو أن أحدا انتبه إلى تقاطع هذين الأمرين أصلا. فجبل تاراناكي يحصل على حقوقه ككيان بشري، بينما يجري الحديث عاليا في الولايات المتحدة لفرض ترتيبات لحرمان الفلسطينيين في غزة من حقوق وتهجيرهم خارج بلادهم. .
لقد حظي جبل تاراناكي، مع قممه المحيطة وأراضيه، بما في ذلك "جميع عناصره المادية والميتافيزيقية"، باعتراف رسمي باعتباره "كيانًا حيًا وغير قابل للتجزئة". وفي الوقت نفسه، ورد أن أوضاع سكان غزة نوقشت، وعلى الأرجح تم تجاهلها، خلال اجتماع بين مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
وصرّح ويتكوف، وهو مقاول عقاري سابق، علنًا بأن زيارته إلى غزة كشفت أن المنطقة "غير صالحة للسكن". وأشار إلى أن عملية الهدم وإزالة الأنقاض وحدها ستستغرق خمس سنوات. وأضاف: "هذه خطة إعادة إعمار تمتد من 10 إلى 15 عامًا. لا يوجد شيء متبقٍ قائم. هناك العديد من الذخائر غير المنفجرة. المشي هناك غير آمن. إنه أمر بالغ الخطورة."
بهذه البساطة. دون حتى الادعاء بأن الفلسطينيين قد يكونون، مثل ذلك الجبل في نيوزيلندا، "كيانًا حيًا وغير قابل للتجزئة" مع أرضهم، بكل عناصرها "المادية والميتافيزيقية". دون الاعتراف بأن الفلسطينيين، تمامًا مثل جبل تاراناكي، يستحقون حقوق الإنسان ومسؤولياته. بل إن ترامب تحدث عن غزة كما لو كانت مجرد حظيرة دواجن بحاجة إلى تنظيف شامل، قائلاً: "أنت تتحدث عن حوالي مليون ونصف شخص، ونحن فقط نقوم بتنظيف كل ذلك ونقول: 'تعلمون، لقد انتهى الأمر".
ويتمتع الجبل بميزة أخرى، سواء بالمعنى الحرفي أو المجازي، مقارنة بسكان غزة. فقد حصل الآن على اعتراف قانوني بأنه سُلب من السكان الأصليين الماوري بعد استعمار نيوزيلندا من قبل الأوروبيين. ولكن في المقابل، فإن حق الفلسطينيين في العيش على أراضيهم التاريخية يتعرض لمزيد من التشكيك، ليس فقط من قبل ترامب ولكن أيضًا من قبل شخصيات رئيسية في دائرته. لقد تجاهل الرئيس الأمريكي المخاوف بشأن التمزق العائلي والنفسي الذي قد يترتب على التهجير القسري للفلسطينيين من غزة، مشيرًا إلى أن الأمر "يمكن أن يكون مؤقتًا" أو "يمكن أن يكون طويل الأمد"، دون أن يبدي أي اهتمام بالفارق الشاسع بين الخيارين، وكأنهما مجرد تفصيل غير ذي أهمية.
قبل عام، قدّم جاريد كوشنر، صهر دونالد ترامب وكبير مستشاري السياسة الخارجية في إدارته الأولى، تقييمًا غير عاطفي لغزة بأسلوب تجار العقارات. في حديثه مع البروفيسور طارق مسعود من جامعة هارفارد، قال كوشنر: "عقارات الواجهة البحرية في غزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة"، واقترح أن تقوم إسرائيل "بإخراج السكان ثم تنظيفها".
أما مايك هاكبي، المرشح لمنصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل، فقد صرّح سابقًا بأن هناك "مساحات واسعة من الأراضي" للفلسطينيين في الأردن ومصر وسوريا. هاكبي، الذي يرفض تمامًا فكرة حل الدولتين، دعا إلى محو الهوية الفلسطينية لغويًا وإنهاء أي مطالبة لهم بالأرض في غزة أو الضفة الغربية. وقد أدلى بتصريحات مختلفة منها: "لا يوجد شيء اسمه فلسطيني"، و "لا يوجد شيء اسمه الضفة الغربية، إنها يهودا والسامرة"، و "لا يوجد شيء اسمه مستوطنة، إنها مجتمعات وأحياء ومدن"، و "لا يوجد شيء اسمه احتلال".
صوت آخر من معسكر ترامب هو إليز ستيفانيك، المرشحة لمنصب سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، والتي أكدت في يناير اعتقادها بأن لإسرائيل "حقًا توراتيًا في الضفة الغربية بأكملها".
تصريحات كهذه من واشنطن توفر منصة قوية لدعم الموقف المتطرف الذي يدافع عنه القوميون المتشددون في إسرائيل من أتباع الوزير اليميني المتطرف إيتمار بن غفيرالذي استقال من الحكومة مؤخرا وبتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الأكثر تطرفا، اللذين يطالبان معا بإزالة الوجود الفلسطيني بالكامل من داخل حدود فلسطين التاريخية. ولكن خلال الأشهر التي تلت هجمات 7 أكتوبر التي نفذتها حماس والهجوم الإسرائيلي اللاحق على غزة، أصبح الحديث عن طرد الفلسطينيين، سواء طوعًا أو قسرًا، أكثر تكرارًا ووضوحًا. يجب أن يرحلوا إلى الأردن أو مصر أو سوريا أو إندونيسيا، لا يهم. بن غفير صرّح بأن الفلسطينيين يجب أن "يُشجَّعوا" على الهجرة الطوعية من غزة لأن "الأرض ملك لنا". قبل أيام فقط، زعم سموتريتش أنه يعمل على "خطة تشغيلية" لإعادة توطين سكان غزة خارج القطاع، لتحويل فكرة ترامب إلى سياسة ملموسة.
سيكون من المفارقات أن يصبح ترامب 2.0 لحظة مفصلية مؤسفة في النضال الطويل للفلسطينيين من أجل تقرير المصير. فقد تم الترحيب بعودة ترامب إلى البيت الأبيض باعتبارها الشرارة التي ستطلق عملية السلام في غزة. وبالفعل، دخل اتفاق وقف إطلاق النار الحالي حيز التنفيذ قبل ساعات فقط من تنصيب الرئيس الأمريكي في 20 يناير. يمثل هذا الاتفاق أفضل الآمال لإنهاء أحد أطول وأعنف الهجمات العسكرية الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، مما منح سكان غزة المنهكين استراحة قصيرة من ويلات القصف المستمر. وقد تمكن مئات الآلاف من النازحين من العودة إلى مجتمعاتهم الأصلية في شمال غزة، رغم أن الكثيرين لم يجدوا منازلهم التي دُمرت بالكامل. كما أُعيد فتح معبر رفح الحيوي إلى مصر، بعد أن ظل مغلقًا أمام المدنيين لمدة تسعة أشهر، مما أتاح إجلاء بعض المرضى والجرحى من غزة.
كما أن ترامب قد قدّم نفسه في ولايته الثانية على أنه "صانع سلام وموحِّد"، واعدًا بأنه سيقيس نجاحه من خلال "الحروب التي ننهيها، وربما الأهم من ذلك، الحروب التي لا ندخلها أبدًا". ومع ذلك، هو وإدارته يروّجون لحل مشوّه لما يُسمى "المشكلة الفلسطينية" من وجهة نظر إسرائيل. مثل هذا المخطط لن ينهي الصراع، بل سيشعل صراعًا جديدًا. عندما يطالب اليمين الإسرائيلي المتطرف بترحيل الفلسطينيين بالكامل إلى أي مكان آخر في العالم، يبدو الأمر كما لو أنه يتم نقل أشياء جامدة إلى وجهة مناسبة، وليس التعامل مع بشر يتمتعون بحقوق ومسؤوليات. هذا أمر أصبح جبل في نيوزيلندا قادرًا الآن على المطالبة به قانونيًا، لكن الفلسطينيين لا يستطيعون ذلك.